في السهول القاحلة والمغبرة المحيطة بمدينة بابل القديمة وسط العراق، يسود طقس كئيب ويائس يطبع تفاصيل الحياة اليومية.

يقف القرويون بوجوه أنهكها القلق من خمس سنوات متواصلة من الجفاف في طوابير طويلة، ينتظرون موزع المياه للحصول على ألف لتر ثمين بالكاد يكفي ليومين.

هذه هي الحقيقة الصارخة والمدمرة لبلدٍ اشتهر تاريخياً باسم "أرض النهرين"، مهد الحضارة، وهو يواجه اليوم أزمة مياه كارثية حولت هويته إلى هوية بلد عطشان، لتضع شعبه أمام صراع يومي مرهق من أجل البقاء.

الجفاف المطوّل في جنوب ووسط العراق تجاوز حدود الإزعاج الزراعي، ليصبح تهديداً وجودياً للمجتمعات التي استوطنت هذه الأرض لأجيال.

الأزمة لم تعد محصورة في تأمين مياه الشرب، بل امتدت إلى استحالة الحفاظ على الماشية، العمود الفقري للاقتصاد الريفي.يقول علي كاظم جمال، أحد سكان القرى، للاعلام:"أسافر 15 كيلومتراً للحصول على الماء للغسيل، و20 كيلومتراً للحصول على مياه الشرب".

أما موزع المياه إسماعيل حسن فيصف معاناة الأهالي قائلاً:"إنهم فقراء في منطقة نائية. توقفت مشاريع الخدمات، وبعضهم يأتي بالتوك توك أو الشاحنات ليحمل ألف لتر فقط، ثم يضطر للعودة بعد يومين".

الأزمة أجبرت العائلات على خيارات مستحيلة. يقول جبار بني عبد:"لديّ ما بين 30 و40 بقرة وحوالي 100 رأس من الأغنام. جميعنا نملك ماشية لكننا نبيعها. لا نستطيع توفير الماء لها، ونحن بالكاد نجد ما يكفينا".

مع بيع الماشية وتلف الأراضي الزراعية، يتعرض الريف لضربة اقتصادية قاسية. أما من بقي، فيفعل ذلك لأنه لا يملك خياراً آخر.

يقول إحسان عبد العالي:"لم تصلنا المياه منذ خمس سنوات. حياتنا تعتمد على أرضنا وحيواناتنا. من كان يملك المال غادر، ومن لا يملكه بقي هنا".

هكذا يتجسد نزوح بطيء وصامت، حيث يغادر القادرون، ويُترك الفقراء لمواجهة زحف الصحراء وحدهم، في ظل غياب استجابة حكومية فاعلة.

الأزمة في بابل تمثل صورة مصغرة لكارثة وطنية أكبر. فقد انخفضت احتياطيات المياه في العراق إلى أدنى مستوياتها منذ 80 عاماً، نتيجة قلة الأمطار وتراجع تدفق دجلة والفرات بفعل السدود الضخمة في دول الجوار، خاصة تركيا.

لجنة الزراعة في البرلمان العراقي حذّرت من أن حياة نحو 20 مليون مواطن باتت في خطر.

وفي السياق ذاته، كشف مرصد العراق الأخضر أن البلاد فقدت مليون شجرة خلال عامين بسبب الجفاف والتخريب المتعمد.الأهوار التاريخية في جنوب العراق، المصنفة كموقع تراث عالمي، تواجه انهياراً مدمراً مع موت عشرات من رؤوس الجاموس يومياً، ما يدفع السكان إلى النزوح الجماعي.

وتفيد تقارير المنظمة الدولية للهجرة بأن نحو 170 ألف شخص نزحوا بسبب العوامل المناخية، من بينها ندرة المياه وتدهور الأراضي.الأزمة البيئية انعكست على الصحة العامة أيضاً، إذ اضطرت وزارة البيئة العراقية للاعتراف بتلوث مياه الشرب في محافظات الفرات الأوسط بعد إنكارها الأولي.

وحذّر المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان من أن العراق يواجه "كارثة إنسانية" في ظل ضعف الاستجابة الحكومية وغياب خطط وقائية، بينما لم تحقق الجهود الدبلوماسية مع دول المنبع نتائج ملموسة.

وفي أرضٍ كانت مهد الحضارات، يتجول اليوم العراقيون بحثاً عن جرعة ماء، فيما تتحول هوية "شعب النهرين" ببطء وبشكل مأساوي إلى غبار.

المصدر_موقع كردستان 24

اضف تعليق