تزامنًا مع إعلان الأمم المتحدة حالة المجاعة في مدينة غزة، حيث لا تزال إسرائيل تكثّف هجومها العسكري، وتدخل المساعدات الإنسانية بكميات ضئيلة جدًا إلى القطاع الفلسطيني المدمّر، خرج العديد من أخصائيي القانون الدولي للإقرار بحدوث إبادة جماعية هناك.

وقالت لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم التي عملت في المنطقة بتكليف من مجلس حقوق الإنسان ومقرّه في جنيف، ومنظمات غير حكومية دولية وإسرائيلية، يوم الثلاثاء ترتكب إسرائيل إبادة جماعية ضد السكان الفلسطينيين في قطاع غزة، وقد استوفت بأفعالها أربعة من أصل خمسة معايير. وتقول رئيسة اللجنة: “من الواضح أن هناك نية لتدمير الفلسطينيين".

أما الدول، فهي لا تزال مُنقسمة؛ إذ ترفض الدول الغربية استخدام هذا المصطلح قبل بتّ المحكمة الدولية في الأمر ومن جهتها، تنفي إسرائيل أيّ اتهام بالإبادة الجماعية.

ما هي الإبادة الجماعية؟

تم تعريف الإبادة الجماعية كمصطلح قانوني لأول مرة على يد محامٍ بولندي عام 1944، وأدرج في اتفاقية عام 1948 الهادفة إلى الوقاية من جريمة الإبادة الجماعية ومكافحتها. تم إنشاء هذه المعاهدة الدولية من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، استجابةً للمجازر المروعة التي حدثت خلال الحرب العالمية الثانية، وكذلك نتيجة لمحاكمة نورمبرغ التي تم فيها محاكمة القادة النازيين المتورطين في الهولوكوست لعدم وجود تعريف لجريمة الإبادة الجماعية في ذلك الوقت، فقد تمت إدانة هؤلاء القادة بتهمة الاضطهاد كجريمة ضد الإنسانية.

يتضّح لنا جانبان مفصليان من الاتفاقية. يتعلق الأوّل بأعمال الإبادة الجماعية التي تستهدف مجموعة (قومية أو اثنية أو عرقية أو دينية). ونميّز خمسة معايير محددة لهذه الجريمة:

قتل أفراد المجموعة

الاعتداء الجسيم على السلامة البدنية أو العقلية لأفراد المجموعة

تعريض المجموعة عمدًا لظروف معيشية من شأنها أن تؤدي إلى تدميرها البدني، كليًا أو جزئيًا

اتخاذ تدابير تهدف إلى منع الإنجاب في وسط المجموعة

النقل القسري لأطفال المجموعة إلى مجموعة أخرى

أمّا الجانب الثاني، فيتعلق بنية الإبادة الجماعية. أي يجب أن تكون هذه الأفعال، التي يكفي واحدٌ منها فقط لإثبات وجود إبادة جماعية، مصحوبةً بنية تدمير المجموعة، كليًا أو جزئيًا.

وتقول باولا غايتا، أستاذة القانون الدولي في معهد جنيف للدراسات العليا: “من السهل إثبات الفعل، لكن ليس من السهل إثبات نية الإبادة الجماعية.

ومن جهته، يوضّح روبرت كولب، أستاذ القانون الدولي في جامعة جنيف، قائلًا: “يجب إثبات، على سبيل المثال، نية قتل أفراد من المجموعة، ولكن أيضًا، من خلال قتلهم، نية القضاء على المجموعة كليًا أو جزئيًا”. ويستطرد مُحدّثنا: “على عكس جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، تُعرّف الإبادة الجماعية تعريفًا خاصًا جدًا. فهي من الناحية القانونية، ليست أخطر من الجرائم الدولية الأخرى. ولكن لدى الرأي العام، يوضع ترتيبٌ لكل الجرائم، وتُعتبر الإبادة الجماعية جريمة الجرائم”.

من يمكنه ارتكاب إبادة جماعية؟

قد يبدو السؤال بسيطًا، لكنه في الحقيقة معقد. فعلى سبيل المثال، هل يمكن لدولة ما ارتكاب جريمة إبادة جماعية من الناحية القانونية؟ يشير روبرت كولب إلى أنه “تقنيًا، لا يمكن. فالإبادة الجماعية تُرتكب من قبل الأفراد، وليس من قبل الدول. أما الدول، فهي تنتهك اتفاقية منع الإبادة الجماعية.” وتلزم تلك الاتفاقية الدولة بمنع هذه الجريمة ومعاقبة مرتكبيها. “ومن هنا نستنتج أنها تفرض على الدولة عدم ارتكابها، لكن الأمر يبقى الأمر محصورًا في إطار انتهاك الاتفاقية.

من يمكنه وصف “إبادة جماعية” بأنها إبادة جماعية؟

تشير باولا غايتا إلى أنّ “طرح السؤال بهذه الصيغة ليس صحيحًا”. لكن في حالة غزة، يتردد هذا السؤال على لسان الجميع. وعندما طلب أحد الصحفيين من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اتّخاذ موقفٍ صريحٍ على قناة “تي أف 1” (TF1)، كان ردّه: “الرجل السياسي غير مطالب باستخدام هذا المصطلح. بل هذا شأن المؤرخين والمؤرخات الذين واللائي يتعيّن عليهم.نّ البت في القضية، في الوقت المناسب.

وتشير باولا غايتا إلى أنه “يجوز للمؤرخين والمؤرخات وصف ما حدث بأنه إبادة جماعية. كما يجوز أيضًا للسياسيّين والسياسيّات، والمنظمات غير الحكومية، وخبراء الأمم المتحدة وخبيراتها، ورجال القانون والمحاكم ونسائها، مع اختلاف معايير الإثبات، والأبعاد الزمنية، وأحيانًا حتى الاصطلاحات.

وتؤكد باولا غايتا أنّ طرح السؤال “من يقرّر؟” بهذه الصيغة ليس دقيقًا، لاضطراب المجتمع الدولي، وعدم وجود أيّ سلطة مركزية. ومن وجهة نظر القانون الدولي، لكل دولة الحرية في إصدار أحكامها الخاصة. فلا يجب على الدول انتظار قرار من محكمة العدل الدولية لتحكم ما إذا كان هناك إبادة جماعية أم لا".

في حالة رواندا، على سبيل المثال، نددت العديد من الدول بالمجازر باعتبارها إبادة جماعية، قبل تأكيد المحاكم الدولية هذا التصنيف. وفي السنوات الأخيرة، أدانت الولايات المتحدة أيضًا ما وُصف بالإبادة الجماعية في إقليم دارفور في السودان، وفي مقاطعة شينجيانغ في الصين، دون إصدار المحكمة الدولية حكمًا في هذا الشأن. أما في حالة غزة، فقد ارتأت عدة دول، منها قطر والبرازيل وناميبيا، وصف ما حدث بالإبادة الجماعية.

غالبًا ما يربط الجمهور الإبادة الجماعية بمذبحة يتعرّض لها شعبٌ ما، لكن لا يوجد في الاتفاقية ما يشير إلى ضرورة إبادته، إذ يُعدّ وجود نية في تدميره الجانب الأساسي.

ما هو دور العدالة الدولية في هذه الحالة؟

يمكن للعدالة الدولية أيضًا الاعتراف بحدوث إبادة جماعية. وهناك هيئتان رئيسيتان، تلعبان دوريْن مختلفين هنا.

1. محكمة العدل الدولية: وهي أعلى هيئة قضائية في الأمم المتحدة، متخصّصة في تسوية النزاعات بين الدول.

2. المحكمة الجنائية الدولية: هيئة تعترف بها 124 دولة باعتبارها مؤهّلة لمحاكمة الأفراد المتهمين بارتكاب أكثر الجرائم خطورة، من ضمنها الإبادة الجماعية.

3. يمكن أن نذكر أيضًا المحاكم الخاصة، المُنشَأة خصيصًا لحالات معيّنة، مثل يوغوسلافيا سابقًا ورواندا.

إذا اعتبرت دولةٌ ما أنّ دولة أخرى تنتهك اتفاقية الإبادة الجماعية، فيمكنها رفع قضية لدى محكمة العدل الدولية. وهذا ما فعلته جنوب أفريقيا، وغامبيا. إذ اتهّمت الأولى إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، واتهّمت الثانية ميانمار بارتكاب إبادة جماعية ضد الروهينغا. ولم يصدر أيُّ حكمٍ حتى الآن.

كما يمكن للمحكمة الجنائية الدولية، التي تقاضي الأفراد وتحاكمهم، وليس الدول، النظر في هذه الجريمة. لكنها حتى الآن، لم تحاكم أيّ شخص بتهمة الإبادة الجماعية. ففي نهاية عام 2024، أصدرت مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، وقد نفى هذه التهمة. وفي عام 2023، أصدرت المحكمة مذكرة توقيف مماثلة بحق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.

يجدر الذكر أنه حتى اليوم، لم تعترف العدالة الدولية سوى بثلاث حالات إبادة جماعية. وهي الإبادة الجماعية ضد التوتسي في رواندا، التي حوكم مرتكبوها أمام محكمة رواندا الجنائية الدولية، والإبادة الجماعية في سريبرينيتسا في البوسنة، التي حوكم المسؤولون الصرب عنها أمام المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا سابقًا، وأخيرًا إبادة الشام والفيتناميين.ات في كمبوديا، التي حوكم المسؤولون عنها من الخمير الحمر، أمام الغرف الاستثنائية في المحاكم الكمبودية. كما اعترفت محكمة العدل الدولية بالإبادة الجماعية في سريبرينيتسا، لكنها لم تحدّد صربيا كمسؤولة عنها.

وتزخر كتب التاريخ بأمثلة كثيرة، لا سيما تلك التي سبقت وجود الاتفاقية، مثل الإبادة الجماعية للأرمن خلال الحرب العالمية الأولى. لكن هذه الحالات هي أيضًا موضوع خلافات ومجادلات سياسية حادة. فلا تزال الإبادة الجماعية للأرمن، رغم اعتراف العديد من الدول والهيئات الدولية بها، محلّ إنكار من قبل تركيا.

هل يحق للعدالة الوطنية أن تنظر في جرائم الإبادة الجماعية؟

نعم، هذا ممكن. يمكن للعدالة الوطنية في بلد معني، الحكم على هذه الجريمة إذا كان الإطار القانوني يسمح بذلك. وكذلك محاكم الدول الثالثة، بموجب مبدأ الاختصاص العالمي، الذي يسمح للبلدان مطبِّقته بالحكم على الجرائم الدولية المرتكبة في الخارج. ففي عام 2023، أدانت المحكمة السويسرية قائدًا عسكريًا ليبيريًا سابقًا، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

ما هي العواقب المترتبة عن اعتراف دولة ما أو العدالة الدولية بحدوث إبادة جماعية؟

طبقًا لاتفاقية عام 1948، فإن الدول ملزمة بمنع جريمة الإبادة الجماعية، ومعاقبة مرتكبيها. يوضح روبرت كولب قائلًا: “الدولة التي ترى أن هناك إبادة جماعية، عليها التزامات معيّنة. ومن بين هذه الالتزامات عدم دعم تلك الإبادة، أي عدم تقديم المساعدة والسند لارتكابها.

يشير الخبير إلى حظر المعاهدة المُسمّى بالدعم المتعمّد، كما في حالة إرسال شحنات أسلحة. ويعني ذلك الشحنات المرسَلة بنية مسبّقة، مع معرفة مسبقة، أو بوجود مؤشرات قوية على استخدامها لارتكاب إبادة جماعية.

ويمكن للدول أيضًا اتّخاذ إجراءات مضادة (عقوبات) ضد بلد ترى انتهاكه بنود الاتفاقية.

على ضوء ما سبق، كيف ستكون عواقب اعتراف محكمة العدل الدولية بحدوث إبادة جماعية في غزة، مثلًا؟ تقول باولا غايتا: “في القانون الدولي، نجد العواقبَ القانونية الأساسية هي نفسها، سواءً انتهكت دولةٌ ما معاهدةً تجارية أو اتفاقية الإبادة الجماعية. فهي ملزمة بوقف الفعل غير المشروع، وعدم تكراره، وبدفع تعويضات".

تمثّل الإبادة الجماعية، بالنسبة إلى من يرتكبها، عبئًا ثقيلًا. أما الضحايا، فيرونها نكبةً تبني عليها المجموعةُ هويتَها. وتخلص الخبيرة إلى أن “هناك سردية جديدة بدأت تفرض نفسها، تصنّف الدول حسب وجودها على الجانب الصحيح أو الخاطئ من التاريخ.

 

 

متابعات

 

س ع

 


اضف تعليق