منذ هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وقفت الولايات المتحدة سريعاً إلى جانب (إسرائيل)، معتبرة ما قامت به حركة حماس هجوماً مشابهاً لأحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001، التي غيّرت مسار السياسة الأمريكية لعقود.
حينها، اندفع الرئيس الأمريكي آنذاك جو بايدن لزيارة (إسرائيل)، وأرسلت واشنطن حاملتَيْ طائرات ومجموعتيهما القتالية إلى المنطقة في رسالة ردع موجهة إلى خصوم (إسرائيل)، لا سيما حزب الله وإيران، في محاولة لمنع أي جبهة جديدة قد تُفتح ضدها.
ومع تصاعد الحرب في غزة وارتفاع أعداد الضحايا، ولا سيما بين المدنيين، وجدت إدارة بايدن نفسها أمام ضغطٍ متزايد من الرأي العام الأمريكي، فاضطرت إلى توجيه انتقادات لـ (إسرائيل) وتقييد بعض صفقات السلاح، لكنها لم تتخلَّ عن دعمها الاستراتيجي الراسخ لحليفتها التقليدية.
ومع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، عاد الدعم الأمريكي الحكومي لـ (إسرائيل) إلى مستويات غير مسبوقة، فقد طرح ترامب أفكاراً مثيرة للجدل لإنهاء النزاع، من بينها إخراج الفلسطينيين من قطاع غزة ووضعه تحت إشراف أمريكي، لكنه في الوقت ذاته أبدى رغبة في وقف الحرب، مدفوعاً باعتبارات داخلية تتعلق بقاعدته الانتخابية المحافظة.
لكن خلف هذا المشهد الرسمي، بدأت مؤشرات التحوّل في الرأي العام الأمريكي تتكشف. فبحسب استطلاعات الرأي، تراجع التأييد الشعبي لـ (إسرائيل) على نحو لافت، خاصة بين فئة الشباب واليسار الديمقراطي، الذين يرون أن طريقة إدارة الحرب في غزة تجاوزت حدود الدفاع المشروع إلى مأساة إنسانية تستوجب المراجعة.
الانقسام داخل الحزب الديمقراطي بات واضحاً، فبينما ظل الحزب تاريخياً الحاضنة السياسية المفضلة لليهود الأمريكيين، لم يعد ذلك يعني تأييداً مطلقاً لـ (إسرائيل).
الجناح اليساري في الحزب، بقيادة شخصيات مثل أليكساندرا أوكاسيو كورتيز والمرشح الأوفر حظاً لمنصب عمدة نيويورك زهران ممداني، بات يعبّر عن مواقف نقدية حادة تجاه (إسرائيل)، وصلت إلى حد الدعوة لتطبيق مذكرات الاعتقال الصادرة بحق رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو.
وفي المقابل، ظل الحزب الجمهوري موحداً في دعمه لـ (إسرائيل) على المستوى السياسي، لكن ذلك التماسك بدأ يتآكل في صفوف القواعد الشعبية، حيث بدأ جزء من أنصار ترامب بالتساؤل عن جدوى الدعم غير المشروط لحكومة نتنياهو، خصوصاً مع تصاعد الاتهامات ضد (إسرائيل) بارتكاب جرائم حرب في غزة.
وتجلّى هذا الانقسام بوضوح في مواقف شخصيات مؤثرة في الإعلام المحافظ مثل تاكر كارلسون، الذي وجّه انتقادات علنية لسياسات (إسرائيل)، متسائلاً إن كان هذا الدعم يتعارض مع مبدأ "أمريكا أولاً" الذي يشكل جوهر التيار الترامبي.
مقتل الناشط المحافظ تشارلي كيرك في سبتمبر/أيلول الماضي أعاد الجدل إلى الواجهة، فقد كان كيرك من أبرز المدافعين عن (إسرائيل)، لكنه واجه ضغوطاً من داعميه بعد استضافته لمنتقدين لسياساتها، مؤكداً أن حرية الرأي تبقى قيمة عليا حتى مع من يختلف معهم.
هذا التناقض بين الإخلاص السياسي القديم والتململ الشعبي الجديد يعكس تحوّلاً عميقاً في المزاج الأمريكي. فبينما يصرّ ترامب على دعمه لـ (إسرائيل)، فإنه يدرك – كما قال مؤخراً – أن الأخيرة تخسر "معركة الرأي العام العالمي"، وأن هذا التراجع في التعاطف الشعبي قد تكون له تبعات استراتيجية في المستقبل القريب.
أما مبادرته الأخيرة لإنهاء الحرب في غزة، والتي حظيت بدعم دولي وعربي واسع وموافقة (إسرائيل)، فقد كشفت أن العلاقة بين واشنطن وتل أبيب تدخل مرحلة إعادة تموضع، لا قطيعة فيها، لكنها خالية من الحماس الذي ميّز العقود الماضية.
وبينما تبقى المصالح العسكرية والأمنية المشتركة قائمة، فإن القاعدة الشعبية الأمريكية التي كانت ترى في (إسرائيل) "حليفاً طبيعياً"، باتت اليوم أكثر ميلاً للنظر إليها كعبء سياسي وأخلاقي يزداد ثقلاً يوماً بعد يوم.
م.ال
اضف تعليق