في كشف أثري جديد يعيد تشكيل فهمنا لتاريخ الإنسان في العصور الجليدية، أظهرت دراسة حديثة أن البشر استخدموا تكنولوجيا معقدة نسبيًا للتحكم بالنار قبل نحو 10 آلاف عام، وهو ما يُعد تطورًا مهمًا في سياق البقاء والتكيف مع الظروف المناخية القاسية.
وأوردت الدراسة، التي نُشرت في دورية Journal of Geoarchaeology، أن فريقًا من الباحثين عثر على ثلاثة مواقد حجرية محفوظة بشكل استثنائي في موقع أثري يُدعى "كورمان 9" على ضفاف نهر دنيستر في أوكرانيا.
وتعود هذه المواقد إلى فترة العصر الحجري القديم الأعلى، الممتدة بين 45 ألفًا و10 آلاف سنة.
ووفقًا للتحليلات، فقد بلغت درجات حرارة هذه المواقد أكثر من 600 درجة مئوية، مما يشير إلى مستوى متقدم من فهم البشر القدامى لطريقة إشعال النار والتحكم بها.
كما بينت الدراسة أن خشب شجر التنوب – وهو نوع من الأشجار الصنوبرية الدائمة الخضرة – كان يُستخدم بوصفه المصدر الأساسي للوقود.
ولم تقتصر وسائل الوقود على الخشب فقط، بل تشير الأدلة إلى احتمال استخدام عظام الحيوانات ودهونها، إذ تم العثور على بقايا عظام محروقة عند درجات حرارة تجاوزت 650 درجة مئوية، وإن لم يُحسم ما إذا كانت هذه العظام استُخدمت عمدًا كوقود أم احترقت عرضًا.
واعتمد الباحثون في دراستهم على تحليل دقيق لشرائح رقيقة من التربة باستخدام المجهر، وهي تقنية تُتيح تتبع بقايا دقيقة مثل الرماد، الفحم، وشظايا العظام، مما يُمكن من رسم صورة مفصلة لاستخدام النار في الموقع.
كما استخدموا تقنيات التحليل اللوني لرصد التغيرات الحرارية في لون التربة، كتحولها إلى اللونين الأحمر أو الرمادي، لتقدير درجات حرارة النيران القديمة.
ويقول الباحثون إن المواقد كانت مفتوحة ومسطحة التصميم، وكان أحدها أكثر سمكًا وحجمًا، ما يدل على احتمالية استخدامه لأغراض مختلفة، أو في مواسم متنوعة، بما يعكس فهمًا وظيفيًا متقدمًا لاستخدام النار.
وتدحض هذه النتائج الفرضيات السابقة التي اعتبرت أن استخدام النار كان محدودًا خلال فترات البرد الشديد، حيث توضح الدراسة أن البشر لم يستخدموا النار للبقاء فحسب، بل أيضًا لأغراض اجتماعية وثقافية، مما استوجب تطوير تكنولوجيا ملائمة للسيطرة عليها.
كما أظهرت الأدلة أن الموقع كان يُستخدم بشكل موسمي ومخطط من قبل الصيادين وجامعي الثمار، حيث تم إعادة استخدام المواقد، في مؤشر واضح على استيطان متكرر ومنهجي.
وتُسهم هذه الدراسة في سد فجوة معرفية حول استخدام النار في العصر الجليدي الأخير، وتُبرز أهمية الابتكار البشري في مواجهة التحديات البيئية القاسية.
م.ال
اضف تعليق