رغم اختلاف الثقافات حول العالم، ثمة قواسم إنسانية مشتركة مثل الحنين إلى الماضي والتطلع إلى المستقبل. لكن في أعماق غابات الأمازون البرازيلية، تعيش قبيلة "بيراها" بطريقة مدهشة، تكاد تُخرجها من هذه المعادلة البشرية.
هذه القبيلة الصغيرة، التي يعود تاريخها إلى نحو عشرة آلاف عام، لا يتجاوز عدد أفرادها اليوم 800 شخص فقط، ويعيشون في أكواخ بدائية على ضفاف نهر "مايسي" بولاية الأمازون. يعتمدون على الصيد وجمع الثمار من الغابة لتأمين قوتهم اليومي، في أسلوب حياة لم يتغير كثيرًا منذ آلاف السنين.
اللافت أن أفراد قبيلة "بيراها" لا يعرفون شيئًا عن الماضي أو المستقبل، إذ يتركز إدراكهم الزمني بالكامل على الحاضر فقط.
هذا المفهوم يتجلى بوضوح في لغتهم التي تفتقر إلى أزمنة الماضي والمستقبل، وتقتصر على استخدام الفعل المضارع، في انعكاس لاعتقادهم بأن "ما يجري الآن فقط هو المهم".
ولا تحتفظ هذه القبيلة بذاكرة جماعية ممتدة، إذ لا يتذكر معظم أفرادها سوى أحداث قليلة، غالبًا ما تتعلق بجيلين أو ثلاثة.
القصص والروايات شبه معدومة، والأسلاف ليس لهم مكان يُذكر في وجدانهم.
من العادات المثيرة أيضًا، قيام أفراد القبيلة بتغيير أسمائهم بين الحين والآخر، لتتناسب مع المرحلة الجديدة من حياتهم، في تماهٍ عميق مع مبدأ "العيش في الحاضر".
لغة "بيراها" تثير حيرة علماء اللسانيات؛ فهي تتكون من 11 حرفًا فقط، وتعد من أعقد اللغات رغم بساطة حياة متحدثيها. لا يتقنها أحد خارج القبيلة، ويُعتقد أن أصلها يعود إلى محاكاة أصوات الحيوانات.
في المقابل، لا يعرف أفراد "بيراها" فنون الرسم ولا يستطيعون العدّ لأكثر من الرقم ثلاثة، كما أنهم يفتقرون إلى التفكير المجرد.
ورغم اتصالهم بالمبشرين المسيحيين منذ خمسينيات القرن الماضي، بقي نمط حياتهم على حاله، حيث لم تؤثر عليهم المحاولات الخارجية لتغييرهم. أدواتهم المنزلية محدودة، ويكتفون بالمقايضة مع التجار عبر النهر للحصول على القليل من الأقمشة أو السكاكين أو الحليب المجفف، مقابل الخشب والمكسرات البرازيلية.
العالم اللغوي "دانيال إيفريت"، الذي عاش بينهم سنوات، يقول إنهم راضون تمامًا عن نمط حياتهم، ولا يعانون من القلق أو الاكتئاب. كما لا توجد بينهم تسلسلات هرمية، فالجميع متساوون.
ويرى بعض الباحثين أن "بيراها" هم من أكثر الشعوب سعادة على كوكب الأرض، إذ يعيشون ببساطة ورضا، دون أن تُثقلهم أعباء التاريخ أو هموم المستقبل.
لكن واحدة من أغرب معتقداتهم على الإطلاق، تتعلق بالنوم. فهم يعتقدون أن النوم الطويل مضر بالجسد والروح، ويؤثر سلبًا على الطبيعة. لذلك لا ينام أفراد القبيلة أكثر من ساعتين يوميًا، على شكل قيلولات لا تتجاوز كل منها 30 دقيقة. وهم يرون أن النوم الطويل قد يجعل الإنسان يستيقظ "شخصًا مختلفًا"، أو يفتح المجال أمام الزواحف السامة لغزو أرضهم.
وبينما يتسابق العالم في تسريع الحياة عبر التكنولوجيا، تقف قبيلة "بيراها" شاهدة على شكل بدائي وبديل من الحياة، يختصر الزمن كله في "الآن"، ويؤمن بأن السعادة قد تكمن ببساطة في أن نكون حاضرين فقط.
م.ال
اضف تعليق