الملخص التنفيذي:

هذا التقرير الصحفي يجمع مداخلات أعضاء "ملتقى النبأ للحوار" حول سؤال مركزي: هل ما زالت الهوية الوطنية العراقية قادرة على استيعاب وتجاوز الهويات الفرعية (الدينية، القومية، المناطقية) أم أننا بحاجة إلى إعادة تعريفها؟

يضم التقرير نقاشا تأمليا وتحليلا مختصرا يستند إلى نصوص الأعضاء كما وردت، ويُختتم التقرير بتوصيات عملية وسياسية مبنية على الإجماع النسبي بين المداخلات.

منهجية العمل:

تم جمع المداخلات المكتوبة من أعضاء الملتقى كما وردت، وحُفظت نصوصها كاملة. أُجري عليها تقويم لغوي محدود (تحسين علامات الترقيم وتقويم نحوي طفيف) حفاظا على وضوح المعنى، مع الامتناع عن حذف أو تغيير كلمات الأعضاء. ثم تم تحليل المحاور المتكررة لتقديم خلاصة واستنتاجات وتوصيات.

مدخل صحفي:

طرح "ملتقى النبأ للحوار" سؤالا افتتاحيا حمل في جوهره قلقا وفضولا: هل الهوية الوطنية العراقية ما زالت قادرة على أن تكون مظلّة جامعة تضم التنوع الديني والقومي والإقليمي، أم أن الواقع يتطلب إعادة تعريف يواكب التحولات السياسية والاجتماعية؟

في إجابات الأعضاء تتقاطع صورة مزدوجة: اعتراف بوجود الهوية الوطنية كقيمة مشتركة ورمز مشترك، وفي الوقت نفسه اعتراف بضعفها العملي والمؤسسي نتيجة إخفاقات الدولة في العدالة والتمثيل وفرص المواطنة.

تتراوح الحلول المقترحة بين تعزيز المواطنة الدستورية وإعادة تنظيم العقد الاجتماعي، إلى الدعوة لصياغة هوية عصرية تحمي الخصوصيات وتؤسس لعدالة تمثيلية.

أبرز المحاور المشتركة

-      الهوية كمشاعر ومؤسسات: العديد من المشاركين شددوا على أن الهوية "شعور" لكنه يحتاج إلى مؤسسات وقوانين تكسر منطق الانقسام.

-      المواطنة الدستورية مقابل المكونات: تكررت الدعوة للانتقال من تعريف الهوية بموجب "المكونات" إلى تعريفها عبر الحقوق والواجبات.

-      الخطر في تسييس الهويات الفرعية: التحول إلى هويات سياسية مسيسة يخلق حالة من الانقسام حتى داخل المكوّن الواحد.

-      التوازن بين الاعتراف والاندماج: القبول بالتعدد كقيمة لا يعني ذوبان الهويات الفرعية، بل تنظيمها ضمن دولة تحترم الحقوق.

توصيات مبنية على مداخلات الأعضاء

•  تفعيل المواطنة الدستورية عبر إصلاحات قانونية واضحة تضمن تكافؤ الحقوق والواجبات.

•  تعزيز مؤسسات الحكم المحلي وتقوية استقلالية الدولة عن هيمنة الأحزاب أو الاقتصاد الريعي.

 • مراجعة المناهج التعليمية والإعلامية لتبني خطابًا وطنيًا يقوم على المشتركات والعدالة لا على الشعارات.

•  سياسات اقتصادية تُقوّي مصالح المواطن وتخفف من ديناميات الاحتكار والولاءات الحزبية.

•  حوار مجتمعي مستمر يشمل المكوّنات كافة لصياغة عقد اجتماعي جديد. 

مداخلات الأعضاء

سؤال حواري | ملتقى النبأ للحوار

تحية طيبة وبعد، السيدات والسادة أعضاء ملتقى النبأ للحوار:

هل ما زالت الهوية الوطنية العراقية قادرة على استيعاب وتجاوز الهويات الفرعية (الدينية، القومية، المناطقية) وتوحيد المجتمع؟ أم أننا اليوم بحاجة إلى إعادة تعريف الهوية الوطنية بما ينسجم مع واقع العراق وتحدياته الراهنة؟ ننتظر آراءكم ومقارباتكم الفكرية.

الدكتور حميد الطرفي:

عندما استلم ابن أختي الجنسية الكندية في عام 1997 بعد إقامته في كندا ثلاث سنوات، خطب فيهم وزير الداخلية قائلاً: "اليوم أنتم مواطنون كنديون تتمتعون بذات الحقوق التي يتمتع بها أي كندي وعليكم ذات الواجبات؛ أنا هنا لهنئكم أولًا ولأقول لكم إن منحكم الجنسية الكندية لا يعني أن تنسلخوا تمامًا عن جنسيتكم الأم ولكم كل الحق في التفاخر بها وإظهارها بأي شكل لا يخالف القانون والنظام العام."

من هنا أود القول أننا يجب أن نفرق بين الهوية والمواطنة؛ فالثانية علاقة سياسية قانونية بين مكتسب الجنسية ودولته قد تساهم في خلق علاقة روحية وعاطفية وشاعرية فتكون متماهية مع الهوية الوطنية وقد لا تساهم؛ في حين أن الهوية هي الحقيقة التي يتفرد بها الشيء عن غيره أو هي الحقيقة التي تشتمل على كل صفات الشيء بالقوة أو بالفعل، كاشتمال النواة على الشجرة. وبعبارة أخرى، أن الهوية علاقة طبيعية بين المرء وذاته وبيئته وديانته وقوميته؛ فيها الروح والحنين والدفء ورابطة الانتماء، في حين أن المواطنة علاقة مدنية وضعتها القوانين بين المرء ووطنه.

وبناءً على ما تقدم، فسعي الدولة لإلغاء الهويات الفرعية لأفراد شعبها فيه الكثير من الجور والحرمان وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي يتراكم لينفجر؛ وحينها لا تتمكن روابط المواطنة من الصمود فتتقطع هذه الروابط ليعود كل إلى هويته الفرعية. وهذا ما حصل في يوغسلافيا بعد عام 1991. فمن حق كل مواطن أن يعتز بما يعتبره هويته الفرعية شريطة أن يستظل الجميع تحت خيمة المواطنة التي تعني المساواة في الحقوق والواجبات والعدالة في توزيع الثروات.

ولأن الدولة شخص معنوي يتمظهر حتماً بأشخاص طبيعيين لهم هويات فرعية، فيقينًا أنها ستبدو بهوية الأشخاص الطبيعيين الأكثر عددًا الذين يقودون هذه الدولة، ولذا تحرص الدول ذات الأغلبية الواضحة لدين ما أن تثبت ذلك في دساتيرها كالنص الوارد في معظم دساتير الدول الإسلامية (الإسلام دين الدولة الرسمي) أو النص الوارد في دستور العراق الدائم لعام 2005 في المادة الثانية، الفقرة ثانية: "يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي كما ويضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية كالمسيحيين والايزيديين والصابئة المندائيين."

النائب نفوذ الموسوي:

تعد قضية الهوية الوطنية في العراق من أكثر القضايا تعقيدا وحساسية للموازنة بين الخصوصية العقائدية وبين الانتماء للوطن.

الأصل في الانتماء هو حب الوطن والشعور بالمواطنة كونه مرتبطًا بالإيمان، ولا نرى تعارضًا بين الهوية الدينية والوطنية، انطلاقًا من القاعدة الذهبية: "الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق". هذه القاعدة هي الأساس لإعادة تعريف الهوية الوطنية؛ فهي لا تلغي التنوع بل تضعه تحت مظلة الحقوق والواجبات المتساوية.

بالإضافة إلى ذلك فإن الإسلام من جهة يذم "العصبية" التي تعتمد في أصلها على القومية أو المناطقية المتطرفة التي تؤدي إلى الظلم. ومن جهة أخرى يشجع على التكاتف الاجتماعي ضمن الدائرة الوطنية لحفظ المصالح العامة.

وهل الهوية الحالية قادرة على استيعاب الهويات الفرعية؟ الواقع يشير إلى أن الهوية الوطنية العراقية "التقليدية" تعرضت لهزات عنيفة يراد منها أن تبدو هشة أمام الهويات الفرعية. إذ إن الهويات الفرعية (دينية، قومية) نمت كملاجئ للأفراد عندما عجزت الدولة (كإطار للهوية الوطنية) عن توفير الأمن والعدالة. من منظور فكري، المشكلة ليست في وجود الهويات الفرعية، بل في "تسييس" تلك الهويات. الهوية الوطنية القوية هي التي لا تطلب من المواطن التخلي عن خصوصيته، بل تضمن له ممارستها بأمان مقابل الولاء للوطن.

نحن اليوم أمام ضرورة ملحة لإعادة تعريف الهوية بما ينسجم مع واقعنا، وفق النقاط التالية:

-       الهوية "الدستورية" والعدالة الاجتماعية بدلًا من الهوية القائمة على الشعارات العاطفية. نحتاج إلى هوية قائمة على "المواطنة الدستورية" (كما تطرحها المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف)، يتم التركيز دائمًا على مفهوم "دولة المواطنة" التي يتساوى فيها الجميع بغض النظر عن انتماءاتهم.

-      التكامل لا الصهر: إعادة التعريف يجب أن تقوم على مبدأ "التكامل" وليس "صهر" الهويات. العراق فسيفساء، ومحاولة فرض لون واحد (سواء كان قوميًا أو مذهبياً) ستؤدي دائما إلى رد فعل عكسي.

-      المشتركات القيمية: يجب أن ترتكز الهوية الجديدة على قيم مشتركة: التاريخ المشترك الذي يجمع العراقيين في مواجهة الأزمات، والمصالح الاقتصادية التي تبني هوية "تنموية" تجعل من استقرار العراق مصلحة لكل فرد. الهوية الوطنية العراقية لا تزال قادرة على البقاء، لكنها بحاجة إلى "تحديث برمجتها" لتتحول إلى "عقد اجتماعي" جديد يضمن الحقوق ويوزع الثروات بعدالة من خلال تدعيم وتفعيل مبادئ العدل والمساواة واحترام كرامة الإنسان.

الحقوقي سردار الهركي:

الهوية الوطنية العراقية قادرة، من حيث المبدأ، على استيعاب وتجاوز الهويات الفرعية الدينية والقومية والمناطقية، لكن ذلك ليس أمرًا تلقائيًا ولا شعارا يُرفع، بل مشروط بسلوك الدولة وطبيعة النظام السياسي. فالهوية الوطنية لا تُفرض بالقوة، ولا تُبنى عبر الإنكار، بل تتشكل حين تشعر الهويات الفرعية أن هذه الهوية الجامعة ليست خطرا عليها، ولا مشروعا لابتلاعها أو محوها، بل مظلة تحميها وتكفل لها الاعتراف والكرامة والحقوق المتساوية.

أخطر ما يهدد الهوية الوطنية ليس تنوع المجتمع، بل تهميش هذا التنوع والتنكيل به، والتعامل معه بوصفه عبئا أو تهديدا.

كلما شعرت جماعة ما أن الدولة لا تمثلها، أو أنها مستهدفة في لغتها أو ثقافتها أو معتقدها، لجأت بطبيعة الحال إلى الانكفاء على هويتها الفرعية بوصفها خط الدفاع الأخير عن وجودها. عندها تتحول الهوية الوطنية من إطار جامع إلى عنوان فارغ، أو أسوأ من ذلك: إلى أداة إقصاء.

لقد كانت ممارسات النظام السابق مثالًا صارخًا على ذلك. فسياسات القمع والإنكار والصهر القسري، واستخدام "الهوية الوطنية" كغطاء أيديولوجي للهيمنة، أسهمت بشكل مباشر في إضعاف أي إمكانية لولادة هوية عراقية جامعة حقيقية. لم يكن فشل الهوية الوطنية آنذاك بسبب تعدد القوميات أو الأديان، بل بسبب دولة رأت في التنوع خطرًا يجب سحقه لا حقيقة يجب إدارتها بعدل.

ومن هذا المنطلق، يثير الدستور العراقي — في لحظة صياغته — تساؤلات مشروعة. فقد كان من المثير للدهشة إصرار بعض القوى على تضمين نص يؤكد أن "العراق جزء من الأمة العربية"، وكأن هذا التعريف الأحادي يمكن أن يشكل أساسا لهوية جامعة.

في هذه الحالة، كيف يُفترض بالكردي أن يشعر؟ أو التركماني؟ أو الكلداني، أو الآشوري؟ كيف يمكن إقناع مواطن غير عربي بأن الدولة التي ينتمي إليها تعترف به اعترافًا كاملا، في حين يُعرَّف الوطن دستوريًا من خلال هوية قومية لا ينتمي إليها؟

الهوية الوطنية الجامعة لا تُبنى عبر الغلبة العددية، ولا عبر تعريف أحادي، بل عبر عقد اجتماعي عادل يشعر فيه الجميع بأنهم شركاء لا ضيوف، وأصحاب وطن لا هامش فيه. فالعراق ليس أحادي اللون، ولن يكون. وقوته الحقيقية تكمن في قدرته على تحويل هذا التنوع من مصدر صراع إلى مصدر غنى، ومن عامل تفكك إلى رافعة وحدة.

إن هوية عراقية جامعة لا تعني ذوبان الهويات الفرعية، بل تنظيم العلاقة بينها على أساس المواطنة المتساوية، والدستور العادل، والدولة المحايدة تجاه الانتماءات. وعندما يشعر العراقي — أيًا كان انتماؤه — أن الدولة تحميه لا تستهدفه، وتعترف به لا تشكك فيه، عندها فقط تصبح الهوية الوطنية خيارًا واعيًا لا قسرًا مفروضًا، وانتماءً طبيعيًا لا شعارا هشا.

الدكتور أحمد الميالي:

هناك تراجع واضح في ثبات الهوية الوطنية العراقية لصالح الهويات الفرعية، وهذا انعكس على بُنية النظام السياسي والمؤسساتي الذي بات فاقدًا للاستقلالية، وتحول إلى كيان تابع لإرادة الساسة في حين جُرد الشعب من دوره وفاعليته، وأصبح منقسمًا على أسس فرعية تحكمها المصالح الخاصة المسيسة. أضحت العلاقة بين الدولة والمجتمع محكومة بمنطق المنفعة الوظيفية مقابل الولاء السياسي الهوياتي للقيادات والأحزاب المكوناتية، بحيث يرتبط استقرار المجتمع بمدى تمثيل الدولة أو الحزب لمصالحه. وعندما تختل هذه العلاقة ويتعالى جهاز الحكم السياسي عن تمثيل الإرادة الشعبية تتعمق حالة الاغتراب والتفكك، وهو ما يشهده العراق في المرحلة الراهنة. والأخطر اليوم يتمثل في أن الصراع لم يعد قائمًا أساسًا بين الهويات الفرعية أو المكونات المجتمعية المختلفة بل انتقل إلى داخل الهوية الفرعية الواحدة نفسها؛ فلم يعد الحديث يدور عن اقتتال طائفي بين السنة والشيعة أو صراع قومي بين العرب والكرد بقدر ما أصبح الانقسام والتناحر يتجذران داخل المكون الواحد والطائفة الواحدة، بما ينذر بمستوى أكثر تعقيدًا وخطورة من التفكك الاجتماعي والسياسي.

جوزيف صليوا رئيس حزب اتحاد بيث نهرين الوطني:

شعار الوطنية هو عبارة عن بيع الهوى للشعب بالمفهوم الكلاسيكي! الوطنية الحقيقية — وليس المزيفة منها - تتجلى في:

-      الديمقراطية الحقيقية القائمة على المساواة الكاملة بين أفراد وجماعات الوطن.

-       التخلي عن إعطاء هوية دينية أو قومية للدولة أو جزء من الدولة (أقاليم)، حيث الدولة عبارة عن حدود جغرافية ومؤسسات مادية لا دين لها ولا قومية معينة، ويكون ذلك من خلال فصل الدين والقومية عن الدولة وعدم احتكار القوانين، العلم، النشيد الوطني، وتوزيع إدارة الدولة ومؤسساتها بين جميع أطياف الشعب بتوازن معقول وليس احتكارها بفئة بعينها باسم الأغلبية العددية.

-      احترام الحريات العامة والخاصة وفق الدستور بعيدًا عن الأهواء والمزاجات بحيث يشعر المواطن بحريته الكاملة بعيدًا عن التقييد وفق أهواء جماعية محددة.

-      اتباع سياسة خارجية متزنة تضمن الالتحاق بركب التطور الإنساني العام.

-      الحرص على تشريع قوانين تسمح بإخراج الاقتصاد من طوائل الاقتصاد الريعي والذهاب إلى اقتصاد السوق العالمي.

-      تغليب المصلحة العامة للأمة العراقية التعددية على الانجرار إلى حروب وتوريث الشعب الويلات وجعله حطبًا لنيران تدفئ نخبة سياسية وحاشيتها بعينها وتحرق عموم الشعب.

في ظل غياب هذه المفاهيم الأساسية وغيرها من المفاهيم الفرعية وتطبيقها على أرض الواقع، يبقى شعار الوطنية شعارًا في ظاهره جميلا وفي باطنه جعل من الشعوب أسرى وضحايا لأهواء استبدادية لم تنجح سابقًا ولن تنجح مستقبلا.

الدكتورجمانة جاسم الأسدي:

الحقيقة ان الدستور العراقي لسنة 2005 تبنّى مفهومًا تعدديًا للهوية الوطنية، إذ جمع بين الانتماء الوطني العراقي وبين الاعتراف بالهويات الفرعية الدينية والقومية والثقافية، وعدّها عناصر مُكوِّنة للمجتمع لا نقيضًا له، وعليه فمن حيث النصوص لا توجد أزمة تعريف للهوية الوطنية ولكن المشكلة ليست في غياب الإطار القانوني، بل في ضعف تفعيله وفي قصور السياسات العامة عن تحويل هذا التعدد إلى مصدر وحدة وتكامل.

أما عمليًا فالهوية الوطنية خلال العقود الماضية تعرضت لضغوطات شديدة نتيجة الصراعات السياسية، وضعف الدولة، وتسييس الهويات الفرعية، هذا الواقع بصراحة أضعف الشعور بالانتماء الوطني الجامع، لا بسبب فشل مفهوم الهوية الوطنية بحد ذاته، بل بسبب تآكل الثقة بين الدولة والمجتمع وعدم تحقيق العدالة والمواطنة المتساوية.

بهذا المعنى، تبقى الهوية الوطنية إطارًا جامعًا ممكنًا وواقعيًا، متى ما أُديرت إدارة قانونية رشيدة تستوعب التنوع دون أن تحوّله إلى انقسام تمييزي.

الدكتور منقذ داغر:

الهوية الوطنية شعور قبل أن تكون سلوكًا. والشعور له مكونّان هما المكون الانفعالي (حب وكره… الخ) ومكون عقلي معلوماتي. في العراق لا المعلومات ولا الحقائق تساعد على بناء هوية جامعة. يبقى المكون الشعوري الذي يتفاعل مع المنجز الوطني (فوز منتخب، انتصار في معركة، زيادة إقبال على الانتخابات… الخ)، وهذه المنجزات في العراق لا زالت شحيحة. هذا ما يضعف الشعور بالهوية الوطنية التي تبحث عن دليل عقلي ومنجز شعوري. لذلك لا نلوم بروز الهويات الفرعية وحلولها محل الهوية الوطنية. نحتاج إلى برنامج علمي مبني على معلومات ومنجزات لبناء الهوية الوطنية التي بدونها نفقد أهم مرتكزات البنية التحتية للاجتماع والسياسة والاقتصاد.

الكاتب أوس ستار الغانمي:

الحديث عن الهوية الوطنية العراقية يقتضي قدرًا عاليًا من الواقعية بعيدًا عن الشعارات. فالهوية الوطنية، بوصفها إطارًا جامعًا، لم تلغَ يومًا من الوعي العراقي، لكنها تعرضت خلال العقود الأخيرة إلى تآكل وظيفي أكثر منه انهيارًا جوهريًا. بمعنى أدق، المشكلة ليست في غياب الهوية الوطنية، بل في ضعف قدرتها المؤسسية والسياسية على إدارة التنوع واستثماره لصالح مشروع وطني جامع.

الهويات الفرعية في العراق (الدينية، القومية، المناطقية) ليست طارئة ولا بالضرورة سلبية؛ فهي مكونات تاريخية وثقافية طبيعية لأي مجتمع متنوع. الإشكال يبدأ حين تتحول هذه الهويات من روافد للهوية الوطنية إلى بدائل عنها، وغالبًا ما يحدث ذلك عندما تفشل الدولة في تحقيق العدالة، وتكافؤ الفرص، وسيادة القانون. عندها يلجأ الفرد إلى هويته الأقرب طلبًا للحماية والتمثيل.

من هذا المنطلق، يمكنني القول إن الهوية الوطنية العراقية ما زالت قادرة نظريًا على الاستيعاب والتوحيد، لكنها تحتاج عمليًا إلى إعادة تعريف وظيفي لا فكري فقط. إعادة تعريف لا تعني اختراع هوية جديدة، بل إعادة صياغة العقد الوطني على أساس المواطنة، لا المكوّن؛ الحقوق، لا الانتماءات؛ والدولة، لا الجماعة. هوية وطنية تُقاس بقدرتها على ضمان الكرامة والخدمات والعدالة، لا بالاكتفاء بالرموز والخطاب العاطفي.

التحدي الحقيقي اليوم هو الانتقال من "هوية شعورية" إلى "هوية مؤسسية"، تترجم في التعليم، والإعلام، والقانون، والاقتصاد. دون ذلك، ستبقى الهوية الوطنية حاضرة في الخطاب وغائبة في الممارسة، وتبقى الهويات الفرعية هي الملاذ الأقوى في أوقات الأزمات.

إننا لسنا أمام خيارين متناقضين (هوية وطنية أم هويات فرعية)، بل أمام معادلة تحتاج إلى إعادة توازن. هوية وطنية عراقية قادرة على استيعاب التعدد لا عبر تذويبه، بل عبر تنظيمه ضمن دولة عادلة وقادرة، وهذا هو التحدي الجوهري في المرحلة الراهنة.

الدكتور جابر التميمي:

أعتقد أن الهوية الوطنية تسمو على ما سواها من مسميات، والدليل أننا عندما نكون خارج الوطن نقدم ونعرف أنفسنا بهويتنا الوطنية، والآخرون يميزوننا ويقيموننا بتلك الهوية، فيما تتلاشى باقي المسميات الأخرى. في الداخل فنحن مواطنون بتلك الهوية الوطنية المعرفين عراقيين بسببها، وإلا فبدونها نكون إما لاجئين أو عديمي الجنسية، وهذا ينطبق أيضًا، حسب رأيي، على مواطني كثير من الدول.

الدكتور مجيد حميد الحدراوي:

أعتقد أن الهوية الوطنية العراقية قادرة على استيعاب الهويات الفرعية رغم تحديات الانقسام السياسي وما نتج عنه من تداعيات. ولتعزيز الهوية الوطنية العراقية وتمكينها من استيعاب الهويات الفرعية، لا بد من إحقاق العدالة والمساواة بين أبناء الوطن وتطوير النظام الديمقراطي من آلية انتخاب إلى منظومة قيم المواطنة.

الدكتورة رقية سعيد:

الهوية الوطنية تعد من الثوابت في المجتمع العراقي، وقد واجهت العديد من التحديات، لكن الأهم هو الاستمرار في تعزيز تلك الهوية والتوعية بركيزة المواطنة التي تعد من أسس الهوية، وهي الانتماء السياسي. أيضًا الحفاظ على الهوية الوطنية يتم من خلال الحفاظ على القيم.

الخبير القانوني أركان البدري:

الهوية الوطنية مقياس لتقدم الدول أو تراجعها. للارتقاء بالدولة لابد من صناعة هوية وطنية تجمع كل حالات التنوع في المجتمع، وللأسف واقع حالنا اليوم نشهد — بسبب الأزمات التي مرت على البلد — تراجعًا في بلورة الهوية الوطنية على حساب التنوع العقائدي والقومي والعشائري والفكري، مما انعكس سلبًا على نمو وتطور البلد.

الدكتورة ندى العابدي:

أعتقد أننا بحاجة إلى مزيج بين الاثنين: الهوية الوطنية لا ينبغي أن تلغي الهويات الفرعية (فهذا مستحيل وغير صحي). ملامح إعادة التعريف المطلوبة: المواطنة الدستورية — الانتقال من تعريف الهوية بناءً على "المكونات" إلى تعريفها بناءً على "الحقوق والواجبات". أي أن يكون العراقي عراقياً بانتمائه للدولة وقانونها، لا بتمثيله لطائفة أو قومية معينة.

أما الهوية الجامعة المرنة: يجب أن نعترف بالتعددية كقوة، بحيث يشعر الكردي والتركماني والمسيحي والمسلم بأن "عراقيته" لا تتصادم مع "خصوصيته" بل تحميها.

الشيخ الأستاذ عزيز الطرفي:

أعتقد أن الهوية الوطنية العراقية بكل ما تحتويه من اعتبارات قادرة على استيعاب الهويات الفرعية رغم وجود تحديات واضحة وما نتج عنها من تداعيات، ولتعزيز الهوية الوطنية العراقية وتمكينها من استيعاب الهويات الفرعية لا بد من إحقاق العدالة والمساواة بين أبناء البلد وتطوير النظام الديمقراطي من آلية انتخاب إلى منظومة قيم المواطنة.

الشيخ مكي الحائري:

العراق لا يحتاج إلى "إحياء" الهوية القديمة فحسب، بل إلى "صياغة" هوية عصرية قائمة على مفهوم "المواطنة الفاعلة". فالهوية التي لا توفر الخبز والكرامة والأمان ستظل عرضة للتآكل أمام الهويات الفرعية التي تعد الفرد بالحماية والعيش. إن إنقاذ الهوية هو في الحقيقة عملية إنقاذ للدولة والمجتمع من التفكك النهائي.

خاتمة

تتوصل مداخلات أعضاء ملتقى النبأ إلى نقطة مشتركة نسبياً حول الهوية الوطنية العراقية التي ما زالت ممكنة وذات قيمة رمزية وتاريخية، لكنها تعاني ضعف الترجمة المؤسسية. وهي دعوة من خلال ملتقى النبأ للحوار لإصلاح العقد الاجتماعي عبر مواطنة دستورية، وعدالة في التوزيع، وسياسات تقوّي المؤسسات وتكفل الاعتراف بالخصوصيات.

 

  • ملتقى النبأ للحوار مركز فكري مستقل يُعنى بإنتاج وتبادل الرؤى والتحليلات المتعلقة بالشأن العراقي والإقليمي والدولي. يعمل الملتقى على تعزيز ثقافة الحوار والتعايش، ودعم السياسات العامة المستندة إلى مبادئ حقوق الإنسان والتنمية المستدامة.

كما يشكّل إطارا معرفيا يسعى إلى تحفيز النقاشات الهادفة وتوليد الأفكار الرصينة، بما يسهم في دعم المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني وتقديم المشورة لها من خلال تقارير دورية وتوصيات مهنية.


annabaaforum@gmail.com

https://www.nbanews.net

00964-7709719016


اضف تعليق