في عمق ريف العراق الجنوبي، لم يعد الحديث عن الزراعة والماء مرادفاً للحياة، بل بات مسألة بقاء أو رحيل، فالجفاف الذي يزحف عاماً بعد آخر، حوّل القرى الخصبة إلى أراض قاحلة، وأجبر المئات على مغادرة بيوتهم، تاركين خلفهم ماشيتهم وأرضهم وتاريخهم.
ووسط هذه الظروف، باتت قرى بأكملها مهددة بالاندثار، بعدما التهم "وحش الجفاف" كل ما كان يُبقي المزارعين في أرضهم بسبب شح المياه الذي بات واقعاً يومياً يعيشه الفلاحون ومربو الجاموس وصيادو الأهوار، الذين حوّلهم الجفاف من منتجين إلى نازحين، يبحثون عن فرصة للحياة في المدن المثقلة أصلاً بأزماتها.
وفي إحدى قرى أرياف محافظة ميسان، وجدت "أم هاجر"، امرأة خمسينية وأم لثلاث بنات، نفسها تواجه قسوة الحياة بعد أن خطف الموت زوجها مبكراً، وكانت لسنوات طويلة، تعتاش على تربية الجاموس وصيد الأسماك من الأنهر القريبة، لتبيع ما تجود به الطبيعة وتؤمّن قوت يومها وبناتها.
لكن حين جف النهر، ونفقت مواشيها، لم تجد خياراً آخر سوى الرحيل، كما فعل العديد من جيرانها، لتترك خلفها أرضاً جفت من الماء والرزق معاً.
وتقول أم هاجر بصوت مبحوح أنهكه تعب السنين"كنت أعيش من خيرات الماء وتربية الجاموس وصيد الأسماك، أما اليوم، فلم يبقَ شيء، لا ماء ولا رزق، حتى الجاموس لم يعد موجوداً لذلك قررت الهجرة لإعالة بناتي".
ويعتمد أغلب سكان محافظة ميسان على الزراعة كمصدر دخل رئيسي، ومع ذلك شهدت مناطق الأهوار "حالات نزوح فردية وبيع للجاموس بأسعار زهيدة، نتيجة انعدام الأعلاف ونقص المياه، فضلاً عن تسجيل حالات نفوق بين الجمال"، بحسب مدير زراعة ميسان، ماجد جمعة عبد الحسن.
ويضيف عبد الحسن أن المحافظة تعاني من أزمة مائية حادة للعام الرابع على التوالي، إلا أن هذا العام يشهد مرحلة "خطيرة" من حيث تأثيرها على الزراعة بنوعيها النباتي والحيواني.
ويلفت الانتباه إلى أن الخطة الصيفية الزراعية أُلغيت تماماً، فيما لا تزال الخطة الشتوية معلقة بانتظار توافق وزارتي الموارد المائية والزراعة، وسط قلق متزايد من تفاقم الأزمة.
ورغم اقتراب الموسم الزراعي الشتوي لعام 2025-2026، لم تُقرّ وزارة الزراعة حتى الآن الخطة الزراعية، بينما يترقب الفلاحون المجهول بقلق متزايد.
ويعزو مستشار وزارة الزراعة العراقية مهدي ضمد القيسي، السبب الرئيسي وراء ذلك، إلى انتظار إجراءات وزارة الموارد المائية في احتساب الخزين المائي المتاح.
ويوضح القيسي أن وزارة الزراعة، وإن كانت تتأنى في إعداد الخطة لتجنب الأضرار على الفلاح والمورد المائي، فإنها بدأت التفكير ببدائل تتناسب مع ندرة المياه، منها تطوير وسائل تربية الجاموس، والتحول إلى نظام التربية المغلقة المتداولة للأسماك، لكن هذه الخطط الطموحة تصطدم بواقع التمويل وشحّ التخصيصات.
ويؤكد أن غاية الوزارة هي ضمان الأمن الغذائي وتشغيل الأيدي العاملة الزراعية، لتفادي الهجرة نحو المدن المثقلة أصلاً بالضغط السكاني والبنى التحتية المنهكة.
بدوره، يشير عضو لجنة الزراعة والمياه والأهوار النيابية، ثائر مخيف، إلى أن محافظات الوسط والجنوب، ولا سيما الأهوار، عانت مبكراً من شح المياه، ما أدى إلى هجرة العوائل الريفية نحو المدن في موجات متتابعة.
ويحذر مخيف من أن استمرار الأزمة المائية على نفس المستوى دون حلول فعلية، سيؤدي إلى ازدياد حالات النزوح، مع ما يصاحبها من مشكلات جديدة داخل المدن، مثل ارتفاع نسب البطالة وتراجع الخدمات، في ظل غياب خطة جدية من الحكومة للضغط على تركيا من أجل زيادة الإطلاقات المائية نحو العراق.
وكانت الأهوار منبعاً للثروة الحيوانية والغذائية، إلا أن الوضع تغيّر جذرياً، "حيث فاقت نسبة الهجرة من سكان الأهوار 60%، خصوصاً من مربي الجاموس وصيادي الأسماك"، بحسب الخبير الزراعي تحسين الموسوي.
ولا يقتصر الضرر في الأهوار على الرجال فقط، حيث يقول الموسوي ، إن المرأة الريفية، التي كانت عنصراً منتجاً ومساهماً رئيسياً في الاقتصاد المحلي، باتت اليوم ضحية لهذه التغيرات، بعدما اضطرت إلى ترك أرضها وأدوات عملها خلفها، ليزداد الضغط على المدن التي لم تعد قادرة على استيعاب هذه الطاقات المهجرة.
ويحمّل الموسوي الحكومة مسؤولية غياب الحلول الناجعة، قائلاً إن "التدابير الحكومية كانت أسوأ من الكارثة ذاتها".
وكان وزير الموارد المائية عون ذياب، قد أكد في وقت سابق إن العراق يمر بأصعب سنة مائية لم تشهدها البلاد منذ عقود مضت بسبب شح الأمطار وقلة الإيرادات من دول أعالي المنبع، مشدداً على الحاجة الملحة لزيادة الإطلاقات المائية لمواجهة التحديات المائية، خاصة مع تفاقم آثار التغير المناخي.
ويُصنّف العراق ضمن أكثر خمس دول في العالم تضرراً من التغير المناخي، وفقاً لتقارير الأمم المتحدة ومنظمات دولية مختصة.
متابعات
س ع
اضف تعليق